( فتح صديقي نافذة غرفة مكتبنا المغلقة منذ شهور، تسلل صوت دعاء الكروان من فوق سطح إحدى البنايات ، داعب قلبي المتحجر ، فتح برفق أبوابه الموصدة ، تسرب حنين الذكريات بين حناياه اليابسة ، أحسست برغبة في التقاط أنفاسي ، امتدت أصابعي إلى ربطة عنقي التي أحكمت الخناق حوله تفكها ، أزحت لوحة مفاتيح الكمبيوتر بعيدا و انتفضت واقفا ، أتاني صوت صديقي ) ـ على فين يا ريس ؟ ـ مروح . ـ طب ما لسه بدري ، استنى الساعتين دول و نروح سوا . ـ لا كفاية كده قوي ، أنا رايح البلد . ـ أيوة يا عم ، رايح تبل ريقك ؟ أمـــــوت و أشوفها . ـ هي مين دي إن شاء الله ؟ ـ أيوة ياله استهبل استهبل ، البت اللي بتخليك تسيب اللي وراك و اللي قدامك و تجري تروح لها .... ( قلت بينما أرتدي معطفي ) ـ و الله ما أنت فاهم حاجة ، سلام ... ـ طب و الشغل المتلتل على رأس أبونا ده ؟ ـ إياكش يولع بجاز . ـ طب أقول إيه ل (عز ) بيه ؟ ـ قول له مات ، جت له شوطة خدته ، اتصرف ، دي مشكلتك أنت .... ( انطلقت خارجا ، تسللت من تحت الكتل الخراسانية التي طبقت على صدري لسنوات ، أدفع هذه الأبواب المعدنية الميتة من طريقي ، أخرج إلى الشارع أستنشق نسيم الحرية ، أملأ صدري ... أخذت أسعل بشدة ، ملأ صدري عادم السيارات اللعينة ، هذه الصناديق المعدنية المحمولة على عجلات ، تنفث سمومها طوال اليوم فتحيل الحياة جحيما ، نظرت إلى هذه الغيمة من أبخرة البنزين التي حجبت الرؤية حولي ، وضعت منديلي فوق أنفي و جريت فارا بنفسي ، صرخات أبواقها أخذ يلاحقني ، تسللت يدي بسرعة إلى جيبي ، انتزعت قطعا من منديل ورقي أحشو بها أذني ، حاولت الابتعاد عن هذه الطرق الإسفلتية السوداء ، صعدت أول جسر لعبور المشاة ، هبطت الناحية الأخرى عند محطة القطار ، جريت ألحق بالقطار الذي بدء يتحرك بالفعل ، جلست بجانب النافذة أنظر إلى هذه المكعبات الجامدة ، أخيرا فلتنا من بين فكاك المدينة الموحشة ، تسلل بنا القطار برفق بين الحقول ، حملتني الذكريات فوق جناحيها تسابق القطار ، هبطت بي بين حقول الطفولة ، وجدتني محمولا على كتفيه ، سألته على استحياء ) ـ على فين يا با ؟ ـ مش كان نفسك تعوم ؟ ـ آه .... ـ طيب خلاص ها أعلمك .... ( انهلت على رأسه أقبلها غير مصدق ) ـ بجد يا با ؟ ـ أنا عمري وعدتك بحاجة و خلفت ؟ ـ عمرك . ـ طيب خلاص . ( وقف فوق الجسر الخشبي و صرخ ) ـ يلا عوم . ( قذفني في الماء ، صرخت ) ـ لأ يـــا بـــــــــــــــــــا ، ما بعرفش أعــــــــوم ....... ( ارتطمت بالماء و غصت أغرق ، انسحبت روحي ، حبست أنفاسي ، أخذت ألوح بيدي و قدمي يمينا و يسارا ، فجأة أحسست بشيء يرفعني لأعلى ، وجدتني أطفو فوق سطح الماء ، وجدته يحملني فوق ساعديه ) ـ ما تخليك راجل أمال ... ( حاولت لملمة الحروف ) ـ أصل ... أنت .... رميتني فجأة ... ما كنتش واخد بالي .... ـ ما هو لازم كده عشان تتعلم .... يلا حرك أيدك و رجلك .... ( أخذت ألوح بيدي و قدمي بينما يحملني على ساعده ، فجأة ، وكزني الجالس جواري بالقطار ) ـ إنت نازل فين يا أستاذ ؟ ( أفقت على تحرك القطار ثانية ) ـ شربين ..... ـ ما هي دي شربين ، إلحق انزل بسرعة.... ( نظرت حولي فإذا بالقطار يتحرك ، جريت إلى الباب بينما صرخ الجالسون ) ـ حاسب يا اسطى ..... ( قفزت من القطار بسرعة ، تابعني بعض الركاب مطمئنين ، الحمد لله نزلت بسلام ، رفعت يدي ملوحا متمنيا لهم السلامة ، انتظرت حتى مر القطار ، عبرت السكك الحديدية ، انزويت من بين الأشجار إلى طريق ترابي صغير ، متسللا بين الحقول ، أحسست ببرودة بعض قطرات ماء تتساقط على وجنتي ، نظرت إلى السماء و إذا بالمطر و قد بدء يهطل على استحياء ، طارت العصافير و الحمائم تحتمي بأعشاشها ، رائحة المطر تداعب أنفي ، عبقت رائحة الأزهار الكون من حولي ، ازداد المطر هطولا ، انزويت محتميا بإحدى الأشجار ، أخذ المطر يتساقط بغزارة ، ضممت المعطف طلبا للدفء ، أخذت أتابع القطرات التي بدأت تتجمع حتى سالت خلال قنوات صغيرة إلى المستنقعات المنخفضة حول الأشجار ، بدأت المياه ترتفع من حولي ، ما العمل الآن ؟ تسربت المياه إلى داخل حذائي ، هل سأبقى هكذا ؟ على ما يبدو أن المطر لن يتوقف ، عندها عزمت على تكملة رحلتي تحت الأمطار ، تحركت في اتجاه بلدتنا التي تتوارى خلف الحقول في الأفق هناك ، حاولت التقدم بين الأوحال ، مع كل خطوة أجتهد لنزع حذائي من بين الطين ، فلتت قدمي اليمنى من الحذاء الذي أطبق الوحل عليه فظل ثابتا دون حراك ، غاصت قدمي في الطين ، لا حول و لا قوة إلا بالله ، عدت ثانية محاولا استرداد الحذاء فإذا بقدمي الأخرى تفلت لتغوص هي الأخرى ، لم استطع السيطرة على ضحكاتي فانطلقت تقرقع في الفضاء ، حملت الحذاء بيدي و رحلت أكمل طريقي ضاحكا ، حاولت الصعود للأماكن المرتفعة التي لم يغرقها الماء بعد ، فجأة ، انزلقت قدمي ، اختل توازني ، فسقطت ممددا في الوحل ، ارتطم وجهي يغوص بالطين ، انفجرت في الضحك ، لم أجد أمامي بد من الفرار ، عندها انقلبت ممددا على ظهري بالوحل أضحك ، اغتصب سمعي صوت جرس هاتفي المحمول ،